Admin Admin
المساهمات : 343 تاريخ التسجيل : 27/09/2009
| موضوع: الجرح والتعديل عند المحدثين الخميس مايو 27, 2010 4:18 am | |
| الجرح والتعديل عندالمحدثين رضا أحمد صمدي تمهيد:
استقر في الأوساط العلمية عند المسلمين مبدأ الإسناد في النقول، واعتمده المحدثون آلية لنقل وحفظ النصوص الشرعية، وانتشرت الرواية بالأسانيد في كل البلاد، وأينما حل المسلمون أو ارتحلوا وفي كل بلد فتحوها وأقاموا البناء العلمي فيه معتمدا على التقليد الذي استقر وهو الإسناد. ومن جراء ذلك كثرت الأسانيد والطرق المهلة للنصوص، كما كثر في الأوساط العلمية الرواة النقلة الذين قد تضعف ملكتهم في رعاية وحفظ تلك النصوص. فانتبه الجهابذة المحدثون في وقت مبكر إلى هذا الخلل الذي ابتدأ يظهر في المرويات والأسانيد، فابتكروا آلية أخرى لتنقية هذه الأسانيد مما داخلها من خلل، إذ رأوا أن الخلل إنما هو من الرواة الذين ضعفت ملكتهم أو قدح في عدالتهم بما لا يؤمن تأديتهم للرواية على الوجه المأمون من الانتحال والتحريف فنشأ منذ ذلك الحين علم الجرح والتعديل. قال صديق حسن خان: «وعلم الجرح والتعديل يبحث فيه جرح الرواة وتعديلهم بألفاظ مخصوصة، وعن مراتب تلك الألفاظ، وهذا العلم من فروع علم رجال الأحاديث ولم يذكره أحد من أصحاب الموضوعات مع أنه فرع عظيم». وقد أفرده الحاكم علما مستقلا من علوم الحديث وشرح بعض فصوله في كتابي: المدخل إلى معرفة الصحيح والمدخل إلى معرفة كتاب الإكليل. كما صنف فيه على وجه التأصيل إجمالا كل من ألف في مصطلح الحديث ، أما على وجه التطبيق فتعتبر كتب الرجال والعلل والتواريخ بأنواعها المختلفة هي كتب الجرح والتعديل على الحقيقة. نشأة الجرح والتعديل لقد كانت التحديات الكبيرة التي تواجه المحدثين إزاء هذا السيل الدافق من الأسانيد والمرويات تحتم عليهم وقفة أخرى – بعد تقعيد نظرية الإسناد – ليراجعوا البناء الذي قام على مبدأ الإسناد. ولم تكن كثرة الأسانيد والمرويات لمجردها هي الدافع لتلك الوقفة والمراجعة، بل إن الفتن التي ظهرت في المجتمع المسلم والتقلبات المختلفة التي واجهها المسلمون لسبب الفتوحات الكبرى وما لحقها من تجاور للحضارات المغلوبة.. أو تمازج، وما أغرزه هذا التجاور أو التمازج من تأثيرات سلبية أو إيجابية.. كل ذلك أدى إلى تلك المراجعة. لكن أعظم حدث استدعى حفيظة المحدثين ونقلة الشرع.. تلك الفتن السياسية التي تخفى في عجرها وبجرها فئات من أعداء الدين أو أصحاب الأهواء الذين ضعف إيمانهم أو انعدم واختل ولاؤهم للدين أو انصرم. استحلت تلك الفئات لنفسها أن تتخذ من الإسناد تكأة لانتحال نصوص نبوية تؤيد مذهبهم واتجاههم. فكان الواحد منهم يعمد إلى إسناد مشهور بنظافته مثل سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أو علقمة عن عبد الله بن مسعود وينسبون من خلالها الأحاديث، أو يخترعون أي إسناد (وإن جهل رجاله) ويذيعون بواسطته الآثار والأخبار، إذ كان الناس يومئذ على أصل الصدق، ولم يكونوا ليظنوا أن أحدا يجرأ على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسلام بعد في ذروة انتصاراته وفتوحاته. فلما أحس المحدثون برواج تلك الآثار وخاصة بين الطوائف السياسية المتنازعة ابتدءوا في أخذ الحيطة ورسم السبل لدرء هذه المحاولة الجديدة في تحريف مصادر التلقي عند المسلمين. وقد سبق أن تعرضنا في "نظرية الإسناد" لأثر محمد بن سيرين الذي يقول فيه: « لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم فينظر إلى حديث أهل السنة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم». وقلنا إن هذا الأثر حري أن يكون نصا في تأريخ نشأة علم الجرح والتعديل ، لذلك كان من المناسب أن نوسع القول في حقيقة المراد بالفتنة التي وردت في عبارة ابن سيرين. يرى "روبسون" أن المقصود بالفتنة فتنة عبد الله بن الزبير (في حدود 76هـ) ويستند روبسون إلى عبارة رويت عن مالك أطلق فيها كلمة "الفتنة" على حركة ابن الزبير، وهذا التفسير – في رأيه – يتفق مع عمر ابن سيرين الذي كانت ولادته سنة 32هـ، مما يجعله عند حدوث فتنة ابن الزبير في عمر يمكنه من الكلام بإدراك وإطلاع عما حدث في هذه الفترة. ورأي "روبسون" على وهائه أدنى من رأي "شاخت" الذي فسر الفتنة في كلام ابن سيرين أنها فتنة الوليد بن يزيد (ت 126هـ) معتمدا على التوافق في استعمال حكمة الفتنة بين قول ابن سيرين ونص ورد في تاريخ الطبري حيث قال في حوادث سنة 162هـ: "واضطر أمر بني مروان وهاجت الفتنة"، ومن ثم اعتبر شاخت أثر ابن سيرين موضوعا عليه لأنه توفي سنة 110هـ أي قبل الفتنة. ويعقب الأستاذ محمد العظمي على هذا قائلا: « ومن الواضح الآن أن كل مناقشة – يعني شاخت – مبنية على تفسيره لكلمة فتنة، وهو تفسير تابع لهواه». وقد انزلق في هذه الطريقة في الربط بين تشابه كلمة الفتنة في التاريخ الأستاذ أكرم العمري حيث حدد زمان الفتنة في عبارة ابن سيرين بفتنة مقتل عثمان بن عفان ، لكنه استدل بعبارة لابن سيرين نفسه في موطن آخر ، وفيها يقول : " ثارت الفتنة وأصحاب رسول الله صلىالله عليه وسلم عشر ةآلاف لم يخف منهم أربعون رجلا " . وهي طريقة غير سديدة في فهم العبارات المتشابهة وحمل بعضها على بعض خاصة إذا عرفنا أن الفتن التي حدثت في حياة ابن سيرين تبلغ أكثر من عشر فتن في أرجاء العالم الإسلامي ، وكلها كان يطلق عليها فتن ، وكانت أصداؤها تتردد في كل أرجاء العالم الإسلامي محدثة أثرها بوجه أو بآخر . فمن التعسف إذن أن نفسر كلمة بمعنى لمجرد أن صاحبها استعملها بمعنى في موطن آخر . وقد حاول الأستاذ الأعظمي أن يكون ماديا حيث بحث عن آثار الفتنة في الحديث فوجد أنها الوضع والاختلاق ، فاستقرأ الأحاديث الموضوعة في كتاب " الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة " للإمام الشوكاني فلاحظ وجود 42 حديثا موضوعا بخصوص النبي صلىالله عليه وسلم ، و38 حديثا موضوعا بخصوص الخلفاء الراشدين ، و96 حديثا موضوعا بخصوص علي وفاطمة ، و14 حديثا موضوعا بخصوص معاوية ، مما ينبئ أن حركة الوضع كانت دائرة حول الأشخاص الذين يمثلون محور الفتنة ، وهما علي بن أبي طالب ومعاوية رضي الله عنهما ، فاستنتج من هذا كله أن المراد بالفتنة في كلام ابن سيرين هو فتنة تقاتل علي ومعاوية . وهذه الطريقة على وجاهتها قد أخطأت النتيجة ، لأن الأستاذ الأعظمي يفترض أن من الضروري أن تكون تلك الأحاديث وضعت في زمان الفتنة نفسها ، وهذا ليس بلازم ، بل مخالف للشواهد كما سنبين . إن المنهج العلمي يدعونا إلى ربط الأسباب بمسبباتها ، ودراسة الاحتمالات وسبرها ثم تعيين الاحتمال الذي يكون أكثر واقعية في ظل الظروف والحالة العامة المتصورة للقضية . وفي عبارة ابن سيرين جملتان جديرتان بالتأمل ، لأن فيهما إشارة إلى تعيين الفتنة التي نحن بصددها . هاتان الجملتان هما قوله : " فلما وقعت الفتنة قالوا : سموا لنا رجالكم " وقوله : " وينظر إلى أهل البدعة " . فالجملة الأولى مشعرة بوجود فريقين يتجادلان ، وأن كل فريق كان يستدل بنصوص مسندة ، والجملة الثانية مشعرة بأن معنى البدعة كان حاضرا في ذهن ابن سيرين وهو يتحدث عن الفتنة ويتحدث عن الفريق الآخر الذي استدل بتلك النصوص المسندة . وكأن الفريق الآخر كان مبتدعا في نظر ابن سيرين أو على أقل تقدير يستدل بنصوص رواها من عرف أنه من أهل البدع ، والبدعة بالمعنى الشرعي لم تعرف في ذلك العصر إلا في فريقين : الخوارج والشيعة ، فهؤلاء هم الذين عرفوا بالابتداع من بين الفرق السياسية المتقاتلة ، أما الفرق التي تقاتلت من غيرهما فلم يعرف عنها ابتداع مثل عبد الله بن الزبير ومن ناصره وعبد الملك بن مروان ونصراؤه ونحوهما ، أما البدع الأخرى التي ظهرت في ذلك العصر مثل الإرجاء والقدر فلم تكن ذات صبغة سياسية ، بل ولم يطلق عليها أنها فتنة . ومن هذا التتبع ينحصر البحث في بدعتين هما اللتان يجدر أن تكونا سببا في حركة الوضع ، لكن التاريخ يثبت أن الخوارج لم يعرف عنهم الوضع والكذب ، يقول مالك عن عمران بن حطان : " لأن يخر عمران من السماء أحب إليه من أن يكذب " ، وكان عمران بن حطان من دعاة الخوارج . فلم يبق عندئذ إلا بدعة التشيع التي علم التصاق حركة الوضع بها ، لكننا نجزم أن وضع الشيعة للأحاديث لم يكن في عصر علي رضي الله عنه لأمور : الأول : أن الوضع لو حدث في عصر علي لقاومه أشد مقاومة ، كما فعل مع من زعم ألوهيته حيث لم يتهاون معهم ، بل حرقهم تحريقا وأنشد : لما رأيت الأمر أمرا منكرا أججت ناري ودعوت قَنْبُرَا ولا يعقل أن يكون علي رضي الله عنه - وهو المشهور بتحوطه في رواية الأحاديث – يرى أحاديث توضع بحضرته أو بمسمع منه فيقرها ويسكت عنها أو يتهاون في محاربة واضعيها . ولما أشيع في حياته بأن أهل البيت لهم علم خاص ورثوه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر ذلك . ففي صحيح البخاري أن أبا جُحيفة قال لعلي بن أبي طالب : هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله ؟ وفي رواية : ما ليس عند الناس ؟ فقال علي بن أبي طالب : " والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما عندنا إلا ما في القرآن ، إلا فهما يعطى رجل في كتابه وما في الصحيفة " قلت : وما في ا لصحيفة ؟ قال : "العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر " . الثاني : أن حركة الوضع التي قام بها الشيعة لوكانت في حياة علي رضي الله عنه لكان خصومة أكثر الناس تشهيرا واستغلالا لذلك ، لكنه لم ينقل في سجالات الفريقين ( علي ومعاوية في حياتهما ) أنه اتهم أحدهما الآخر بوضع الأحاديث والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم . الثالث : ما جاء في مقدمة في صحيح مسلم بسنده عن طاووس قال : " أُتى ابن عباس بكتاب فيه قضاء علي رضي الله عنه ، فمحاه إلا قدر ذراع – وكان الكتاب مستطيلا أي طويلا – ثم بسنده إلى الأعمش عن أبي إسحاق قال : " لما أحدثوا تلك الأشياء بعد علي رضي الله عنه قال رجل من أصحاب علي : قاتلهم الله ! أي علم أفسدوا " . قال النووي في شرح ذلك : " أشار بذلك إلى ما أدخلته الروافض والشيعة في علم علي رضي الله عنه وحديثه ، وتقولوه عليه من الأباطيل ، وأضافوه إليه من الروايات والأقاويل المفتعلة والمختلقة ، وخلطوه بالحق فلم يتميز ماهو صحيح عنه بما اختلقوه " . وهذا كله يفيد أن الفئة التي وصفت بأنها من أهل البدع في كلام ابن سيرين تصدق أقرب ما تصدق على الشيعة لأنها هي البدعة الوحيدة التي شاركت في صنع الفتنة ووضع الحديث على ما هو مشهور في التاريخ ، ويؤيد ذلك قول ابن عباس : " إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا ، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف " . وفي رواية أخرى : " إنا كنا نحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لم يكن يكذب عليه فلما ركب الناس الصعب والذلول تركنا الحديث عنه " . والذي يترجح لي أن الفتنة التي عناها محمد بن سيرين هي فتنة المختار بن عبيد الثقفي والتي أدت إلى ظهور وانتشار طائفة الكيسانية التي اعتنق المختار مبادئها في نهاية الأمر ، وهم من الشيعة الغلاة ، بل لا يستراب في كفر أقوال صدرت منهم ، وقد ظهر المختار هذا على العراق وانتشر صيته وذاع أمره . وليس بمستبعد أن المختار عندما ظهر أمره كان له من أصحاب الجدل والمناظرة من يدعون إلى بدعته ويروجون لأفكاره ، والاصطدام المباشر من الناحية الفكرية لا بد أن يكون مع أهل السنة وخاصة طائفة أهل الحديث ونقلته الذي كانوا بمعزل عن كل تلك الفتن ، وهنا يمكن تصور الظرف الذي قال فيه محمد بن سيرين مقولته . والذي يدعونا إلى تأخير تعيين وقت الفتنة – التي أرخ بها ابن سيرين بدأ الجرح والتعديل – هو استحالة ظهور الوضع وانتشاره في عهد الصحابة رضوان الله عنهم، إذ المتصور أنهم سيكونون أول المتصدين لأولئك الكذبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما فعل عبد الله بن عباس فيما مر معنا . لكن يظهر أن الوضع قد بدأ يتعاظم بعد أن قل عدد الصحابة رضوان الله عليهم وأمن الكذابون من تصدي الصحابة ،فما اسهل أن يدعي كاذب أنه سمع من أبي سعيد الخدري وأبي هريرة بعد موتهما ، فعندئذ لم يعودوا يقبلون أي سند إلا أن يعرف راويه أنه من أهل السنة لتزول الشبهة في انتحاله وكذبه . والذي يرجح أن الكذب ابتدأ انتشاره على يد الكيسانية ما جاء عن حرملة بن نصر العبسي ( من أصحاب علي بن أبي طالب ) أنه لما رأى أصحاب المختار بن عبيد الثقفي يكذبون في الحديث قال : " مالهم قاتلهم الله ، أي عصابة شانوا وأي حديث أفسدوا " . وعن إبراهيم النخعي قال : " إنما سئل عن الإسناد أيام المختار " قال ابن رجب : " وسبب هذا أنه كثر الكذب على علي في تلك الأيام " . وهذا مرجح قوي أن الفتنة المقصودة في كلام ابن سيرين هي فتنة المختار ، وقد ذهب إلى تعيين زمان السؤال عن الإسناد فتنة المختار الأستاذ نور الدين عتر في كتابه : منهج النقد في علوم الحديث . ومع أن عبارة ابن سيرين لا تنص على الأشخاص الذين ابتدءوا حركة السؤال عن الرجال والتفتيش في الأسانيد إلا أن النقاد تكاد تتفق كلمتهم على أن محمد بن سيرين نفسه أول من اشتهر عنه فعل ذلك . ومن ذلك عبارته الشهيرة : " إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذوا دينكم " . وقد ذكر ابن رجب الحنبلي أن محمد بن سيرين هو أول من انتقد الرجال وميزن الثقات من غيرهم ، ونقل عن يعقوب بن شيبة قال : قلت ليحيى بن معين : أتعرف أحدا من التابعين كان ينتقي الرجال كما كان ابن سيرين ينتقيهم ؟ فقال برأسه : أي لا . قال يعقوب : وسمعت علي بن المديني يقول : كان ممن ينظر في الحديث ويفتش عن الإسناد ولا نعلم أحدا أول منه ( كذا ) محمد بن سيرين ثم كان أيوب ( يعني السختياني ) وابن عَون ( يعني جعفر بن عون المخزومي ) ثم كان شعبة ثم كان يحيى بن سعيد وعبد الرحمن ( يعني ابن مهدي ) . فهذا تنصيص عن اثنين من كبار نقاد الحديث ( يحيى بن معين وعلي بن المديني ) على أولية محمد بن سيرين في التفتيش عن الإسناد وأقرهما على ذلك عالم مطلع هو ابن رجب الحنبلي رحم الله الجميع . ويشكل على هذا ماجاء عن صالح جَزَرَة ( وهو من أئمة نقد الحديث أيضا ) أنه قال : " أول من تكلم في الرجال شعبة ثم تبعه يحيى بن سعيد القطان ثم أحمد وابن معين " فحاول السيوطي أن يؤول ذلك ، جمعا بين الآراء ، فقال : " يعني أن أول من تصدى لذلك " . والأولى أن يقال إن شعبة هو أول من تصدى لتجريح الرجال وإشهار الكلام عن الضعفاء والتحذير من الرواية عنهم ( كما روي عنه ذلك ) وتعقب المرويات لمعرفة أصولها والخطأ فيها ، أما ابن سيرين فكان أول من فتش عن أحوال الرجال على أساس معرفة من هم من أهل السنة أو من أهل البدعة كما يفهم ذلك من تفسيره كيفية السؤال عن الإسناد في عبارته المنقولة . وشعبة تجاوز ذلك إلى مرحلة المعارضة بين الروايات والأخذ عن الثقات أي عمن عرف بالضبط والحفظ أيضا ، وليس مجرد أن يكون من أهل السنة ، هذا ما بدا لي من تأمل ما نقل عن ابن سيرين وشعبة رحم الله الجميع . وبهذا يتبين لنا أن الجرح والتعديل ابتدأ كعلم في عصر أتباع التابعين وبالأخص على يد شعبة بن الحجاج أبو بِسطام البصري ، ثم انتشر بعد ذلك في كل الأقطار . وما ذكرنا عن أولية شعبة أو محمد بن سيرين لا ينفي بدء حصول الجرح والتعديل منذ وقت مبكر وليس على نحو منظم يعطيه صبغة العلم . ويناسب هنا أن نؤرخ لهؤلاء الذين عرف عنهم التثبت فيما ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتبين لنا أ، علم الجرح والتعديل لم يكن علما لقيطا نشأ على غير رِشدة ، بل له جذور ضاربة في عمق العصور الفاضلة . وأصل الجرح والتعديل إنما هو التثبت الذي هو خلق إسلامي حض عليه الدين وندب إليه المؤمنون ، فقال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " . وقد توافرت آيات عديدة في التحذير من الخرص والظن والقول بغير علم ، قال الله تعالى : (قتل الخراصون ) ، وقال تعالى : ( وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ) ، وقال تعالى : ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) . وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتباع الظن فقال : " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث " . وفي عصر أبي بكر بن الصديق جاءت امرأة ( جدة ) تسأله الميراث ، فسأل الصحابة فأجابه المغيرة بأنها ترث السدس بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلب منه أن يأتيه بشاهد ، فشهد معه محمد بن مسلمة . ولذلك قال الحافظ الذهبي عن أبي بكر الصديق : " هو أول من احتاط في قبول الأخبار " ، وقال أيضا : " وإليه المنتهى في التحري في القول والقبول " . وفعل ذلك عمر بن الخطاب مع أبي موسى الأشعري حين ذكر له حديث النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع " فقال عمر : والله لتقيمن عليه البينة ، فجاء حلقة الصحابة وشهد معه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عنهم . ولم يكن أبو بكر ولا عمر يتهمان الصحابة بالتقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يردعانهم عن التبليغ عنه ، بل فعلا ذلك حتى لا يجترئ من بعدهم أو غيرهم ممن ليس محله في الإسلام كمحلهم . وكان علي بن أبي طالب يستحلف من يحدثه بحديث النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان يقول: " كنت إذا سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله عز وجل بما شاء أن ينفعني منه ، وإذا حدثني غيره استحلفته فحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر .. " . وقد فهم كثير من الباحثين من هذه الرواية – على ما فيها – أن علي بن أبي طالب كان يستحلف كل أحد يروي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا أو إنه اتخذ ذلك منهجا له ، وليس هذا بصحيح ، فواضح من الرواية أن عليا لم يستحلف أبا بكر ، ويظهر أن عليا رضي الله عنه كان يستحلف من يستراب في حديثه . وذكر الحاكم أن أبا بكر وعمر وعلي بن أبي طالب وزيد بن ثابت جرحوا وعدلوا وبحثوا عن صحة الروايات وسقيمها . ثم استن بسنتهم واهتدى بهديهم في هذا جماعات من التابعين ،ثم من بعدهم على اختلاف مدارسهم ومشاربهم وبلدانهم . ثم أتت بعد ذلك مرحلة احتاج فيها المحدثون لتأصيل هذا المنهج في الجرح والتعديل وبيان أصالته واستناده إلى أدلة الشرع واحتياج المسلمين إليه من جهة صيانة نصوص الشريعة عن غائلة الانتحال والكذب والخطأ من الرواة . التأصيل الشرعي قد أسلفنا عند الكلام عن نظرية الإسناد أن نصوص الشرع وجهت إلى مبدأ الإسناد وروحه، ودلت تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم على تزكيته بل اعتماده . | |
|